فصل: جمع القرآن في عهد عثمان أو الأحرف السبعة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: المعجزة الكبرى القرآن



.جمع القرآن في عهد عثمان أو الأحرف السبعة:

13 - جمع القرآن كله في عهد الشيخين أبي بكر وعمر، وقد أودعه عمر حفصة أم المؤمنين، ليكون مصونًا يرجع إليه لا ليتلى منه، فالتلاوة استمرَّت كما كانت في عصر النبي صلى الله عليه وسلم تتلقَّى من أفواه الرجال مرتَّلة، كما تلقوها عن النبي صلى الله عليه وسلم؛ ليبقى القرآن محفوظًا في صدور المؤمنين بنصِّه وتلاوته.
وإن النصَّ المكتوب واحد لا تغير فيه، وهو يحتمل عدة قراءات، وقد ذكروا أن القراءة المتواترة لا تكون مقبولة إلَّا إذا كانت موافقة للنص المكتوب غير زائدة، ولا ناقصة، فهي شاملة للقراءات كلها.
ولقد أجيز في أول نزول القرآن أن يقرأ على لغاتٍ سبع من لهجات العرب كلها يمنيها ونزارها؛ لأن رسول الله صلى الله عليه وسلم لم يجهل شيئًا منها، ولذلك روى البخاري أنَّ القرآن نزل على سبعة أحرف، نُسِخَت ست وبقيت واحدة، ويروي مسلم عن أُبَيّ بن كعب أن النبي صلى الله عليه وسلم كان عند أضاءة بني غفار - وهو غدير صغير عندهم، فأتاه جبريل عليه السلام فقال له: «إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرف، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك»، ثم أتاه الثانية فقال: «إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على حرفين، فقال: أسأل الله معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك»، ثم جاء الثالثة فقال: «إن الله يأمرك أن تقرئ أمتك القرآن على ثلاثة أحرف، فقال: أسأل الله تعالى معافاته ومغفرته، وإن أمتي لا تطيق ذلك»، ثم جاء الرابعة، فقال: «إن الله تعالى يأمرك أن تقرئ أمتك على سبعة أحرف، فأيما حرف قد قرءوا عليه فقد أصابوا».
وروى الترمذي عن أُبَيّ بن كعب، قال: لقى رسول الله صلى الله عليه وسلم جبريل فقال: «يا جبريل، إني بعثت لأمة أمية منها العجوز والشيخ الكبير والغلام والجارية والرجل الذي لا يقرأ كتابًا قط، فقال لي: يا محمد، إن القرآن أنزل على سبعة أحرف». وهذا حديث صحيح.
وقد قال القرطبي في كتابه (الجامع الكبير لأحكام القرآن): (ثبت في الأمهات البخاري ومسلم والموطأ وأبي داود والنسائي وغيرها من المصنَّفات والمسندات قصة عمر مع هشام بن حكيم، وهو الذي صرَّح فيه بأنَّ عمر سمع هشامًا يقرأ بحروف لم يسمعها، فأخذه إلى رسول الله صلى الله عليه وسلم فأقرَّ ما قرأ هشام، وأقرَّ ما قرأ عمر، ثم قال: «إن هذا القرآن أنزل على سبعة أحرف»).
14 - وإننا إذا تأملنا ما جاء في هذه الأخبار الصحاح ننتهي إلى أنَّ العرب ما كانت تطاوع ألسنتهم حرف القرآن، ففيهم الرجل الشيخ والمرأة العجوز اللذان جمد لسانهما على لهجتهما، فلا يطاوعهما على النطق الصحيح بلهجة لم يعرفوها ولم يلوكوها من قبل، فكان لا بُدَّ أن تمرن ألسنتهم أمدًا على لغة القرآن حتى تلين، وتألف النطق بكلماته على اللغة التي بقيت.
وتفسير الأحرف باللهجات أو اللغات العرب ما بين مضرية وربعية ونزارية وقرشية وغيرها، هو التفسير الذي اختاره ابن جرير الطبري، وكثيرون من الرواة، وهو الذي يتفق مع النسق التاريخي في الجمع الذي اضطر ذو النورين عثمان رضي الله تعالى عنه لِأَنْ يقوم به، وارتضاه الصحابة، وقال علي بن أبي طالب - كرَّم الله وجهه: لو كنت مكانه ما عملت إلّا ما عمل.
ولقد ذكر القرطبي أنَّ هذه الأحرف باقية في القرآن لم ينسخ منها حرف، ولكني أرى أن النَّسَق التاريخي الذي أشرنا إليه من قبل يوجب أن يكون حرف واحد قد بقي، وهو لغة قريش، وهو الذي كتب عثمان مصحفه عليه، وكان من قبل مكتوبًا عليه كما سنبين أنه لم يأت قط بما يخالف المصحف المحفوظ عند أم المؤمنين حفصة عندما قابله به.
وقبل أن ننتقل إلى ما فعل الإمام عثمان رضي الله تبارك وتعالى عنه، لا بُدّ أن نذكر حقيقتين دلَّ عليهما المأثور عن النبي صلى الله عليه وسلم، والسياق التاريخي:
أولهما: إنَّ الذي كُتِبَ في عصر النبي صلى الله عليه وسلم لم يعتره تغيير، ولم تجر عليه الحروف السبعة، وإنَّ الحروف السبعة كانت في قراءة القرآن لا في كتابته، وأن استئذان النبي صلى الله عليه وسلم كان في القراءة لا في الكتابة.
ثانيتهما: إنَّ استئذان النبي صلى الله عليه وسلم كان ليسهل على أمته حتى تلين ألسنتهم، وتستقيم على النطق باللغة التي اختارها الله تعالى لقرآنه المنزل من عنده وهو العليم، وهي لغة قريش في جلّ ما أنزل الله تعالت كلماته، فكانت لغة قريش لغة الأدب في الجاهلية والإسلام، فكان من منطق الحوادث أن يكون أعلى الكلام ينزل في ثوب أعلى اللغات العربية؛ إذ كانت لغة الشعر والأدب.
15 - ولنتنقل بعد ذلك إلى جمع ذي النورين عثمان رضي الله عنه، ومكانه من جمع الشيخين أبي بكر وعمر رضي الله تعالى عنهما، وجزاهما عن الإسلام خيرًا.
تفرَّق الصحابة من المهاجرين والأنصار، وقد كان عمر رضي الله تبارك وتعالى عنه آخذًا بحجزات الصحابة، وخصوصًا كبارهم، يمنعهم من مغادرة الحرمين، فاختلف الناس في القراءة، ومنهم من كان يقرأ بالقراءات أو اللغات المختلفة التي ما كانت القراءة بها إلّا ترخيصًا مؤقتًا حتى تلين الألسنة إلى لغة القرآن، وإنها لواحدة، وإن اختلفت القراءات المتواترة، فيظلها ما بين حذف الهمزة في النطق، وإن كانت بقاية في مصحف عثمان تقرأ فيه مثبتة وغير مثتبة، كالأرض - مهموزة، والأرض - من غير همزة، ومن اختلاف في الشكل يدل في كل شكل على معنى صحيح يصلح أن يكون مقصودًا في القرآن، ويكون الجمع صحيحًا، مثل: أنفسكم - بضم الفاء، وأنفسكم - بفتحها، ومثل: فتبينوا - بالباء بعد التاء، أو فتثبتوا - بالثاء بعد التاء وبعدها باء ثم تاء.
وما كان اختلاف القراء في الأمصار في عهد عثمان في هذه القراءات المشهورة بيننا الآن، إنما كان الاختلاف في اللغات التي كان مرخَّصًا بها، فمنهم من لم يعلم نسخها عند قراءة جبريل للنبي صلى الله عليه وسلم في العرضات الأخيرة.
لقد اشتدّ الأمر في ذلك، وعظم اختلافهم، وتشبَّث كل فريق بما يقرأ، زاعمًا أن غيره هو الباطل الذي لا ريب فيه، ووقع الخلاف بين أهل العراق وأهل الشام عندما اجتمعوا في غزوة أرمينية، فقرأت كل طائفة بما روي لها، وتنازعوا أمرهم بينهم، وأظهر بعضهم تكفير بعض، وتبرأ بعضهم من بعض، وكان معهم حذيفة بن اليمان كما ذكر البخاري والترمذي، وقد ذكرا أنَّ حذيفة عندما آب من هذه الغزوة دخل إلى عثمان قبل أن يدخل إلى أهله فقال: أدرك هذه الأمة قبل أن تهلك، قال عثمان: في ماذا؟ قال: في كتاب الله، إني حضرت هذه الغزوة، وجمعت ناسًا من العراق والشام والحجاز، ووصف له ما كان من الاختلاف والتكفير، وقال: إني أخشى عليهم أن يختلفوا في كتابهم كما اختلف اليهود.
أفزع هذا الأمر عثمان التقيّ كما أفزع المؤمنين الذي علموا ذلك النبأ الخطير، ولكن الفزع لم يوهن العزيمة بل شحذها، ولم يضعف الإرادة بل حفزها، وكانت عزمة ذي النورين عثمان.
لقد أحضر النسخة المحفوظة عند أم المؤمنين حفظة؛ لتكون الإمام الذي يحتكم إليه فيما هو مقدَّم عليه، وجمع من الصحابة الحافظين الكرام بضعة على رأسهم زيد بن ثابت الجامع الأول، والثقة الثبت الذي كان له فضل التثبت في كل كلمة وآية.
وقد قال له عثمان رضي الله تعالى عنه عندما ندبه لذلك العمل الجليل: إني مدخل معك رجلًا فصيحًا لبيبًا فاكتباه، وما اختلفتما فيه فارفعاه إليّ، فجعل معه أبان وسعيد بن العاص، فلمَّا بلغا في الكتابة قوله تعالى: {إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ} [البقرة: 248]. قال زيد: فقلت: التابوه، وقال سعيد بن العاص التابوت، فرفعنا الأمر إلى عثمان، فكتب التابوت.
وكان جملة من ضمَّهم إلى زيد ثلاثة هم: عبد الله بن الزبير، وسعيد بن العاص الذي ذكرناه، وعبد الرحمن بن الحارث، وقال لهذا الرهط من قريش: ما اختلفتم فيه أنتم وزويد، فاكتبوه بلسان قريش، فإنه نزل بلسانهم.
ويظهر أنَّ سيدنا عثمان لم يكتف بهؤلاء الأربعة، بل كان يضمّ إلى معاونتهم من يكون عنده علم بالقرآن يعاونهم في كتابته، ولقد روى ابن عساكر أنَّ عثمان دعا إلى هذه المعاونة فقال: إن عثمان خطب يومئذ في الناس، وعزم على كل رجل عنده شيء من كتاب الله لما جاء به، ويقول ابن عساكر: فكان الرجل يجئ بالورقة والأديم فيه القرآن، حتى جمع من ذلك كثرة، ثم دعاهم رجلًا رجلًا، فناشدهم: أسمعت رسول الله صلى الله عليه وسلم وهو أملاه عليك، وهكذا كان يتثبت في الرواية، كما كان التثبت من زيد ومن معه، والذي كتب المصحف الأول الذي أودع أمَّ المؤمنين حفصة رضي الله عنها وعن أبيها فاروق الإسلام.
وقد أتمَّ زيد ومن معه جمع القرآن، ولكن عثمان لا يكتفي، بل إنَّه يسير في الاستيثاق إلى أقصى مداه، فيحضر مصحف أم المؤمنين حفصة، ويعرض المصحف الجديد، فيجدهما يتوافقها تمام التوافق، لا يزيد أحدهما عن الآخر حرفًا ولا ينقص عنه، حتى لقد فهم بعض العلماء أنَّ جمع عثمان كان نسخًا لما جاء في الصحف المحفوظة عند أم المؤمنين حفصة رضي الله عنها وعن أبيها الفاروق، وجاء ذكر ذلك في بعض الروايات تسامحًا، ولكن الحقيقة أنَّه ما كان نسخًا، بل قام بالتحريات كلها، حتى جمع ما جمع، وكان التوافق الكامل الذي يدل دلالة قاطعة على صدق الجمعين، وعلى تواتر القرآن الكريم مكتوبًا ومحفوظًا، وبذلك حفظه الله تعالى وصانه.
ولقد قال الطبري: إنَّ المصحف التي كانت عند حفصة جعلت إمامًا في هذا الجمع الأخير، ويقول الطبري: (هذا صحيح)، ومعنى صحته أنَّه بعد الجمع الذي قام به زيد بأمر عثمان، وعاونه المؤمنين الحافظون قد روجع على مصحف حفصة رضي الله عنها، وكانت هي المقياس لصحته، فبالمقابلة بينهما بعد الجمع تبينت صحتهما بصفة قاطعة لا ريب فيها، فكانت هذه الإمامة، حتى ظنَّ أنه نسخ منها.
16 - ويلاحظ أمران:
أولهما: إنَّ عثمان رضي الله عنه كان غرضه من إعادة جمع المصحف هو أن يكتبه على حرف واحد من الحروف السبعة، أي: اللهجات واللغات السبع، فما كان جمعه إلَّا لإثبات الحرف الباقي الذي روي مكتوبًا عن النبي صلى الله عليه وسلم، ليجتمع عليه المسلمون، ولا يكونوا متفرقين، أن يكون ذلك موافقًا للمكتوب في عهد الرسول صلى الله عليه وسلم.
جاء في القرطبي: (قال كثير من علمائنا كالداودي، وابن أبي صفرة: هذه القراءات السبع التي تنسب لهؤلاء القراء السبعة ليست هي الأحرف السبعة التي اتسعت الصحابة في القراءة بها، وإنما هي راجعة إلى حرف واحد من تلك السبعة، وهو الذي جمع عليه عثمان، ذكره ابن النحاس وغيره).
الأمر الثاني: إنَّ عثمان رضي الله تبارك وتعالى عنه حسم مادة الفتنة بذلك الجمع، وعمل ما كان ينبغي أن يعمل، ولذلك نسخ من هذا الذي جمعه نسخًا على قدر الأقاليم العربية، فأرسل إلى كل إقليم نسخة كانت هي الأصل لهذا الإقليم، فأرسل إلى مصر، وإلى الشام، وإلى مكة واليمن والبحرين والبصرة، والكوفة، وحبس بالمدينة مصحفًا كان هو الإمام لكل هذه النسخ، وهو المرجع الأول في الدولة، ترجع إليه كل المصاحف، وهو الحاكم عليها.
وإذا كان هو الأصل لكلِّ هذه المصاحف فيجب القول بأنه لا اختلاف بينها؛ لأنه الحكم، وأنها صور لنسخة واحدة، ويلاحظ أنَّ الإمام العظيم عثمان قد كتب المصحف خاليًا من النقط والشكل، كما كان المصحف الموجود عند حفصة خاليًا من النقط والشكل، ولم يكن نقط وشكل إلا بعد ذلك.
ولكن لماذا خلا من ذلك؟ والجواب عن ذلك: إنَّ القرآن له قراءات مختلفة هي سبع قراءات، وليست هي الحروف كما ذكرنا من قبل، ولكي يكون المكتوب محتملًا لهذه القراءات المرويّة بطرق متواترة كلها، كان لا بُدَّ أن يكون غير منقوط ولا مشكول، كما ذكرنا في اختلاف القراءة في {أَنْفُسِكُم} وكما ذكرنا في اختلاف القراءة في {فَتَبَيَّنُوا}، وما كان يمكن أن يحتمل النص القراتين إذا كان منقوطًا ومشكولًا.
ومن جهة أخرى: إنَّ الأساس في تواتر القرآن هو الحفظ في الصدور لا في السطور، حتى لا يعتريه المحو والإثبات، فلو كان القرآن منقوطًا ومشكولًا لاستغنى طالب القرآن عن أن يقرئه مقرئ، فلا يكون التواتر الصحيح الذي يقتضي الإجازة ممن أقرأه، ولقد جاء التحريف في الكتب الأخرى لاعتمادها على المكتوب في السطور لا المحفوظ في الصدور.
ومن جهة ثالثة: إنَّ ترتيل القرآن كما أثر عن النبي صلى الله عليه وسلم لا بُدَّ منه كما قال تعالى: {وَرَتَّلْنَاهُ تَرْتِيلًا} [الفرقان: 32]، وإنَّ ذلك لا يتمّ إلَّا إذا كان القرآن يقرأ على مقرئ يجيزه حفظًا وقراءة وترتيلًا.
17 - وإن الرواية الصحيحة بينة مستقيمة لا مجال للشك فيها، وهي تدل على أمور ثلاثة قطعية في ثبوتها، وهي:
أولًا: على أنَّ النص الذي كان عند حفصة هو النص المكتوب في عصر النبي صلى الله عليه وسلم، وهو ذاته النص المكتوب في مصحف عثمان رضي الله عنه، فلا يصحّ الزيادة عليه، ولا يصح النقص.
ثانيًا: على أنَّ القرآن كتب بلغة قريش، وهي الحرف الذي استقرَّت القراءة عليه، وما كان الترخيص بالقراءة بالحروف الأخرى إلَّا مؤقتًا حتى تطوع الألسنة لحرف قريش، ولقد جاء في القرطبي: (إن القرآن نزل بلغة قريش) معناه عندي في الأغلب والله أعلم: لأنَّ غير لغة قريش موجود في صحيح القراءات من تحقيق الهمزة ونحوها، وقريش لا تهمز.
ومؤدَّى هذا الكلام أنَّ الألفاظ والأساليب والمنهج القرآني أنزل على لغة قريش، ولكن الحركات التي تعتري بنية الكلمة من همز أو إمالة أو نحو ذلك جاء على لهجات من غير قريش، ورويت كلها عن النبي صلى الله عليه وسلم.
ثالثًا: إنَّ مصحف عثمان رضي الله تبارك وتعالى عنه يجب أن تكون كل قراءة قرآنية متفقة مع نصه، وأن الشك فيه كفر، وأن الزيادة عليه لا تجوز، وإنه القرآن المتواتر الخالد إلى يوم القيامة.
18 - إذا كانت هذه حقائق ثابتة تواترت في الأجيال، فلماذا كانت الروايات الغريبة البعيدة عن معنى تواتر القرآن الكريم التي احتوتها بطون بعض الكتب كالبرهان للزركشي، والإتقان للسيوطي، التي تجمع كما تجمع حاطب ليل يجمع الحطب والأفاعي، مع أنَّ القرآن كالبناء الشامخ الأملس الذي لا يعلق به غبار؟
قد أجاب عن ذلك الكاتب الكبير المسلم المرحوم مصطفى صادق الرافعي، فقال في كتابه (إعجاز القرآن): ونحن ما رأينا الروايات تختلف في شيء من الأشياء فضل اختلاف، وتتسم في الرد والتأويل كل طريق وعر، كما رأينا من أمرها فيما عدا نصوص ألفاظ القرآن، فإن هذه الألفاظ متواترة إجماعًا، لا يتدارأ فيها الرواة من علا منهم ومن نزل، إنما كان ذلك لأنَّ القرآن أصل الدين، وما اختلفوا فيه إلّا من بعد اتساع الفتن، وحين تألف الأحداث، وحين رجع بعض الناس من النفاق إلى أشد من الأعرابية الأولى، وزاغ أكثرهم عن موقع اليقين من نفسه، فاجترءوا على حدود الله تعالى، وضربتهم الفتن والشبهات، مقبلًا بمدبر، ومدبرًا بمقبل، فصار كل من نزع إلى الخلاف يريد أن يجد من القرآن ما يختلف معه، أو يختلف به، وهيهات ذلك، إلَّا أن يتدسَّس في الرواية بمكروه يكون معه التأويل والأباطيل، وإلا أن يفتح الكلمة السيئة، ويبالغ في الحمل على ذمته، والعنف بها في أشياء لا ترد إلى الله ولا إلى الرسول، ولا يعرفها الذين يستنبطون من الحق، بل لا يعرفون لها في الحق وجهًا. ونحسب أن أكثر هذا مما افترته الملحدة، وتزيدت به الفئة الغالية، وهم فرق كثيرة يختلفون فيه بغيًا بينهم، وكلهم يرجع إلى القرآن بزعمه، ويرى فيه حجته على مذهبه، وبينته على دعواه، ثم أهل الزيغ والعصبية لآرائهم بالحق والباطل، ثم ضعاف الرواة ممن لا يميزون، أو ممن تعارضهم الغفلة في التمييز. وذلك سواد كله ظلمات بعضها فوق بعض، ومن لم يجعل الله له نورًا فما له من نور.
وإن ذلك الذي ذكره الكاتب الإسلامي الكبير حق لا ريب فيه، فإن هذه الروايات التي جمعها من لا يفرق بين الحابل والنابل، وبين الحطب والأفعى، إنما كانت بعد الفتن، ولعل للإسرائيليات دورها الخفي المسموم، وإن الذين تولوها غلاة الفرق، والرواة الذين لا يميزون أو يغفلون ما لا يدركون.
ألم تر إلى أولئك الغلاة يطعنون في عثمان رضي الله عنه، ويجعلون من أسباب الطعن أنه جمع المصحف وجعل له إمامًا، عندما رأى الاختلاف قد تفاقهم، وأنه جمعهم على ما كتب في عهد رسول الله صلى الله عليه وسلم.
ورأى علي رضي الله عنه مثيري الفتنة بعد مقتل الشهيد عثمان، فقال رضي الله عنه وكرم الله وجهه: (يا معشر الناس، اتقوا الله، وإياكم والغلوِّ في عثمان، وقولكم حرق المصاحف، فوالله ما حرقها إلَّا على ملأ منَّا أصحاب محمد صلى الله عليه وسلم)، وروي عن عمر بن سعيد أنه قال: (قال علي بن أبي طالب: لو كنت الوالي وقت عثمان لفعلت مثل الذي فعل عثمان).